فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وظاهر الأساس: أن أعيا لا يكون إلا متعديًا. أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث.
وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع.
قلت: وهو راجع إلى تنازع العاملين.
وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا {ولم يَعْي} دالًا على سَعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به.
وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين. لأنهم لم ينكروا ذلك. وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحِكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات.
وعليه أيضًا تكون تعدية فعل {يَعْيَ} بالباء متعينة.
وقرأ الجمهور {بقادر} بالموحدة بصيغة اسم الفاعل.
وقرأه يعقوب {يقدر} بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة. وتكون جملة {يقدر} في محل خبر {أنَّ}.
وجملة {إنه على كل شيء قدير} تذييل لجملة {بلى} لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض.
وتأكيد الكلام بحرف (أنَّ) لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى. لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء.
و لهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف {قادر}. وفي القدرة على كل شيء بوصف {قدير} الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف {قادر}.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالوا بَلَى وَرَبِّنَا قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}.
موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث. فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعًا بين الاستدلال والإنذار. وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا ممندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعًا بين ما رُدّ به في الدنيا من قوله: {بلى} [الأحقاف: 33] وما يُردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم: {بلى وربنا}.
والجملة عطف على جملة {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض} [الأحقاف: 33] الخ.
وأول الجملة المعطوفة قوله: {أليسَ هذا بالحق} لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره: ويُقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار.
وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوممِ لزيادة تقريره في الأذهان.
وذِكر {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر. أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا.
والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعده {قال فذوقوا العذاب}.
والحق: الثابت.
والاستفهام تقريري وتنديمٌ على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكَذب. وقالوا {وما نحن بمعذبين} [الصافات: 59]. وإنما أقسموا على كلامهم بقسم {وربّنا} قسمًا مستعملًا في الندامة والتغليظ لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تَحَنُّنًا وتخضُّعًا.
وفرع على إقرأرهم {فذوقوا العذاب}.
والذوق مجاز في الإحساس.
والأمر مستعمل في الإهانة.
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولو العزم مِنَ الرُّسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}.
تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله: {وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} [الأحقاف: 7]. وما اتصل به من ضَرْب المَثل لهم بعاد.
فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى. وضرب له المثل بالرسل أولي العزم.
ويجوز أن تكون الفاء فصيحة.
والتقدير: فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا.
وأولوا العزم: أصحاب العزم. أي المتصفون به.
والعزم: نية محققة على عمل أو قول دون تردد.
قال تعالى: {فإذا عزمت فتوكّل على الله} [ال عمران: 159] وقال: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} [البقرة: 235].
وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه:
إذا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمه ** ونكَّب عن ذكر العواقب جانبًا

والعزم المحمود في الدين: العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة. وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى. وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [ال عمران: 186] وقال: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزمًا} [طه: 115].
وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف. وعلى هذا تكون {مِن} في قوله: {من الرسل} تبعيضية.
وعن ابن عباس أنه قال: كل الرسل أولوعزم. وعليه تكون {مِن} بيانية.
وهذه الآية اقتضت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه. فصبره مثيل لصبرهم. ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة.
وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين. أي الاستعجال لهم بالعذاب. أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلًا لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة.
ومفعول {تستعجل} محذوف دل عليه المقام. تقديره: العذاب أو الهلاك.
واللام في {لهم} لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله. أي لا تستعجل لأجلهم. والكلام على حذف مضاف إذ التقدير: لا تستعجل لهلاكهم.
وجملة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله. قال مرة بن عداء الفقعسي. و لعله أخذ قوله من هذه الآية:
كأنك لم تُسبق من الدّهر ليلةً ** إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وهم عند حلو له منذ طو ل المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة.
و{من نهار} وصف الساعة. وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطو ل إذ لا يجد الساهر شيئًا يشغله.
فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم «وفيه ساعة يُستجاب فيها الدعاء». وأشار بيده يقللها. والساعة جزء من الزمن.
{نَّهَارٍ}.
فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمِنهم وكافِرهم ليعلم كلٌّ حَظّه من ذلك. فقوله: {بلاغ} خبر مبتدإ محذوف تقديره: هذا بلاغ. على طريقة العنوان والطالع نحو ما يُكتب في أعلى الظهير: (ظهير من أمير المؤمنين). أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو: (إيداع وصية). أو ما يكتب في التاليف نحو ما في (الموطأ) (وقوت الصلاة).
ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة: (إعلان).
وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى: {هذا بلاغ للناس} [إبراهيم: 52]. وقول سيبويه: (هذا باب علم ما الكلم من العربية). وقال تعالى: {إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} [الأنبياء: 106].
والجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة {تلك عشرة كاملة} [البقرة: 196]. {تلك أمة قد خلت} [البقرة: 134].
{بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم}.
فرع على جملة {كأنهم يوم يرون ما يُوعدون} إلى {من نهار}. أي فلا يصيبُ العذاب إلا المشركين أمثالهم.
والاستفهام مستعمل في النفي. و لذلك صحّ الاستثناء منه كقوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه} [البقرة: 130].
ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون. وذلك من قوله: {قل ما كنتُ بِدْعًا من الرسل} [الأحقاف: 9]. وقوله: {لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} إلى قوله: {ولا هم يحزنون} [الأحقاف: 12. 13]. وقوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} [الأحقاف: 27] الآية.
والأهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد. وما في قوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى}. وبعضه مجازي وهو سوء الحال. أي عذاب الآخرة: وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين.
وتعريف {القوم} تعريف الجنس. وهو مفيد العموم. أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل.
والتعبير بالمضارع في قوله: {فهل يُهلَك} على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم.
و لك أن تجعل التعريف تعريف العهد. أي القوم المتحدث عنهم في قوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} الآية. فيكون إظهارًا في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك.
والمراد بالفسق هنا الفسق عن الآيمان وهو فسق الإشراك.
وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك. أوهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {وإذا صرفنا إليك نفرًا من الجن}.
ابتداء قصة الجن و وفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. و: {صرفنا} معناه: رددناهم عن حال ما. يحتمل أنها الاستماع في السماء. ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون. وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء. فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة. فضاقت الجن ذرعًا بذلك. فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك. واختلف الرواة بعد فقالت فرقة: جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهولا يشعر. فسمعوا القرآن و ولوا إلى قومهم منذرين. ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله. وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ. وهو يقرأ في صلاة الفجر.
وقالت فرقة: بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك. و وفد عليه أهل نصيبين منهم.
قال القاضي أبو محمد: والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم. وهم المتفرقون من أجل الرجم. وهذا هو قوله تعالى: {قل أوحي إلي} [الجن: 1] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد. وهو المذكور صرفه في هذه الآية. قال قتادة: صرفوا إليه من نينوى. أشعر به قبل وروده. وقال الحسن: لم يشعر.
واختلف في عددهم اختلافًا متباعدًا فاختصرته لعدم الصحة في ذلك. أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر كانوا تسعة: فيهم زوبعة. وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني خارج إلى وفد الجن. فمن شاء يتبعني. فسكت أصحابه. فقالها ثانية. فسكتوا. فقال عبد الله أنا أتبعك. قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون. فأدار لي دائرة وقال لي: لا تخرج منها. ثم ذهب عني. فسمعت لغطًا ودويًا كدوي النسور الكاسرة. ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زادًا في كل عظم وروثة. فقال: يا عبد الله. ما رأيت؟ فأخبرته. فقال: لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم. قلت يا رسول الله. سمعت لهم لغطًا. فقال: إنهم تدارأوا في قتيل لهم. فحكمت بالحق». واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود. وروي عنه ما ذكرنا. وذكر عنه أنه رأى رجالًا من الجن وبهم شبه رجال الزط السود الطوال حين رآهم بالكوفة. وروي عنه أنه قال: ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها.
وقوله: {نفرًا} يقتضي أن المصروفين رجالًا لا أنثى فيهم. والنفر والرهط: القوم الذين لا أنثى فيهم.
وقوله تعالى: {فلما حضروه قالوا أنصتوا} فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس: {قُضِي} على بناء الفعل للمفعول.. وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز: {قضى} على بناء الفعل للفاعل. أي قضى محمد القراءة.
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة (الرحمن) فكان إذا قال: {فبأي الاء ربكما تكذبان} [الرحمن: 13] قالوا: لا بشيء من الائك نكذب. ربنا لك الحمد. ولما و لت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم.
قال القاضي أبو محمد: فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباههم صلى الله على محمد عبده ورسوله.
{قالوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}.
المعنى: قال هؤلاء المنذرون لما بلغوا قومهم {يا قومنا إنا سمعنا كتابًا} وهو القرآن العظيم. وخصصوا {موسى} عليه السلام لأحد أمرين: إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود. وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمدًا وبشر به. فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكورًا في توراته. قال ابن عباس في كتاب الثعلبي: لم يكونوا علموا أمر عيسى عليه السلام. فلذلك قالوا {من بعد موسى}.
وقولهم: {مصدقًا لما بين يديه} يؤيد هذا. و: {ما بين يديه} هي التوراة والأنجيل. و{الحق} و(الطريق المستقيم) هنا بمعنى يتقارب لكن من حيث اختلف اللفظ. وربما كان {الحق} أعم. وكأن أحدهما قد يقع في مواضع لا يقع فيها الآخر حسن التكرار. و: {داعي الله} هو محمد عليه السلام. والضمير في: {به} عائد على الله تعالى.